فصل: سورة الحجرات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (16- 26):

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}
{قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب} هم الذين تخلفوا عن الحديبية {سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ} يعني بني حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه لأن مشركي العرب والمرتدين هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وقيل: هم فارس وقد دعاهم عمر رضي الله عنه {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام. ومعنى يسلمون على هذا التأويل ينقادون لأن فارس مجوس تقبل منهم الجزية، وفي الآية دلالة صحة خلافة الشيخين حيث وعدهم الثواب على طاعة الداعي عند دعوته بقوله {فَإِن تُطِيعُواْ} من دعاكم إلى قتاله {يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً} فوجب أن يكون الداعي مفترض الطاعة {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} أي عن الحديبية {يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} في الآخرة {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ} نفي الحرج عن ذوي العاهات في التخلف عن الغزو {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} في الجهاد وغير ذلك {يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ} يعرض عن الطاعة {يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} {ندخله} و{نُعَذِّبُهُ} مدني وشامي.
{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} هي بيعة الرضوان سميت بهذه الآية. وقصتها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل بالحديبية بعث خراش بن أمية الخزاعي رسولاً إلى مكة فهموا به فمنعه الأحابيش، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه فقال: إني أخافهم على نفسي لما عرف من عداوتي إياهم، فبعث عثمان بن عفان فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائراً للبيت فوقروه واحتبس عندهم فأرجف بأنهم قتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا تحت الشجرة، وكانت سمرة وكان عدد المبايعين ألفاً وأربعمائة {فَعَلِمَ مَا في قُلُوبِهِمْ} من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه {فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ} أي الطمأنينة والأمن بسبب الصلح على قلوبهم {وأثابهم} وجازاهم {فَتْحاً قَرِيباً} هو فتح خيبر غب انصرافهم من مكة {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} هي مغانم خيبر وكانت أرضاً ذات عقار وأموال فقسمها عليهم {وَكَانَ الله عَزِيزاً} منيعاً فلا يغالب {حَكِيماً} فيما يحكم فلا يعارض {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} هي ما أصابوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} المغانم يعني مغانم خيبر {وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ} يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا.
وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح {وَلِتَكُونَ} هذه الكفة {ءَايَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} وعبرة يعرفون بها أنهم من الله عز وجل بمكان وأنه ضامن نصرتهم والفتح عليهم فعل ذلك {وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً} ويزيدكم بصيرة ويقيناً وثقة بفضل الله.
{وأخرى} معطوفة على {هذه} أي فعجل لكم هذه المغانم و{مَغَانِمَ أخرى} هي مغانم هوازن في غزوة حنين {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} لما كان فيها من الجولة {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} أي قدر عليها واستولى وأظهركم عليها، ويجوز في {أخرى} النصب بفعل مضمر يفسره {قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} تقديره: وقضى الله أخرى قد أحاط بها، وأما {لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} فصفة ل {أخرى} والرفع على الابتداء لكونها موصوفة ب {لَمْ تَقْدِرُواْ}، و{قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} خبر المبتدأ {وَكَانَ الله على كُلِّ شَئ قَدِيراً} قادراً {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} من أهل مكة ولم يصالحوا أو من حلفاء أهل خيبر {لَوَلَّوُاْ الأدبار} لغلبوا وانهزموا {ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً} يلي أمرهم {وَلاَ نَصِيراً} ينصرهم {سُنَّةَ الله} في موضع المصدر المؤكد أي سن الله غلبة أنبيائه سنة وهو قوله {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة: 21] {التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} تغييراً.
{وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} أي أيدي أهل مكة {وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} عن أهل مكة يعني قضى بينهم وبينكم المكافة والمحاجزة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك يوم الفتح وبه استشهد أبو حنيفة رضي الله عنه على أن مكة فتحت عنوة لا صلحاً. وقيل: كان في غزوة الحديبية لما رُوي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أظهر المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت {بِبَطْنِ مَكَّةَ} أي بمكة أو بالحديبية لأن بعضها منسوب إلى الحرم {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} أي أقدركم وسلطكم {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} وبالياء: أبو عمرو {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدى} هو ما يهدي إلى الكعبة. ونصبه عطفاً على (كم) في {صَدُّوكُمْ} أي وصدوا الهدي {مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ} محبوساً أن يبلغ، و{مَعْكُوفاً} حال. وكان عليه السلام ساق سبعين بدنة {مَحِلَّهُ} مكانه الذي يحل فيه نحره أي يجب، وهذا دليل على أن المحصر محل هديه الحرم والمراد المعهود وهو منى {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مؤمنات} بمكة {لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} صفة للرجال والنساء جميعاً {أَن تَطَئُوهُمْ} بدل اشتمال منهم أو من الضمير المنصوب في {تَعْلَمُوهُمْ} {فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} إثم وشدة وهي مفعلة من عره بمعنى عراه إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه وهو الكفارة إذا قتله خطأ، وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز والإثم إذا قصر.
{بِغَيْرِ عِلْمٍ} متعلق ب {أَن تَطَئُوهُمْ} يعني أن تطئوهم غير عالمين بهم. والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة. والمعنى أنه كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم فقيل: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف أيديكم عنهم. وقوله {لِّيُدْخِلَ الله في رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} تعليل لما دلت عليه الآية وسيقت له من كف الأيدي عن أهل مكة والمنع عن قتلهم صوناً لمن بين أظهرهم من المؤمنين كأنه قال: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل الله في رحمته أي في توفيقه لزيادة الخير والطاعة مؤمنيهم، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم {لَوْ تَزَيَّلُواْ} لو تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين، وجواب (لولا) محذوف أغنى عنه جواب (لو)، ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير ل {لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ} لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون {لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ} هو الجواب تقديره ولولا أن تطئوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف {مِنْهُمْ} من أهل مكة {عَذَاباً أَلِيماً}.
والعامل في {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ} أي قريش لعذبنا أي لعذبناهم في ذلك الوقت أو اذكر {فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} المراد بحمية الذين كفروا وهي الأنفة وسكينة المؤمنين وهي الوقار ما يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بالحديبية بعث قريش سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك وكتبوا بينهم كتاباً. فقال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: «اكتب بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم. ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة» فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة. فقال عليه السلام: «اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله وأنا محمد بن عبد الله» فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ويشمئزوا منه فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا وحلموا {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} الجمهور على أنها كلمة الشهادة. وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم. والإضافة إلى التقوى باعتبار أنها سبب التقوى وأساسها. وقيل: كلمة أهل التقوى {وَكَانُواْ} أي المؤمنون {أَحَقَّ بِهَا} من غيرهم {وَأَهْلَهَا} بتأهيل الله إياهم {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَئ عَلِيماً} فيجري الأمور على مصالحها.

.تفسير الآيات (27- 29):

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا} أي صدقه في رؤياه ولم يكذبه تعالى الله عن الكذب فحذف الجار وأوصل الفعل كقوله: {صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} [الاحزاب: 23]. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل خروجه إلى الحديبية كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وقد حلفوا وقصروا، فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبيّ وغيره: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت {بالحق} متعلق ب {صَدَقَ} أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقاً ملتبساً بالحق أي بالحكمة البالغة وذلك ما فيه من الابتلاء والتمييز بين المؤمن الخالص وبين من في قلبه مرض، ويجوز أن يكون بالحق قسماً إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أو بالحق الذي هو من أسمائه، وجوابه {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} وعلى الأول هو جواب قسم محذوف {إِن شَآءَ الله} حكاية من الله تعالى ما قال رسوله لأصحابه وقص عليهم، أو تعليم لعباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب الله ومقتدين بسنته {ءَامِنِينَ} حال والشرط معترض {مُحَلِّقِينَ} حال من الضمير في {ءَامِنِينَ} {رُءُوسَكُمْ} أي جميع شعورها {وَمُقَصِّرِينَ} بعض شعورها {لاَ تخافون} حال مؤكدة {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ} أي من دون فتح مكة {فَتْحاً قَرِيباً} وهو فتح خيبر ليستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر الفتح الموعود.
{هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى} بالتوحيد {وَدِينِ الحق} أي الإسلام {لِيُظْهِرَهُ} ليعليه {عَلَى الدين كُلِّهِ} على جنس الدين يريد الأديان المختلفة من أديان المشركين وأهل الكتاب، ولقد حقق ذلك سبحانه فإنك لا ترى ديناً قط إلا وللإسلام دونه العزة والغلبة. وقيل: هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات {وكفى بالله شَهِيداً} على أن ما وعده كائن، وعن الحسن: شهد على نفسه أنه سيظهر دينه والتقدير وكفاه الله شهيداً و{شَهِيداً} تمييز أو حال {مُحَمَّدٌ} خبر مبتدأ أي هو محمد لتقدم قوله {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} أو مبتدأ خبره {رَسُولِ الله} وقف عليه نصير {والذين مَعَهُ} أي أصحابه مبتدأ والخبر {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار} أو {مُحَمَّدٌ} مبتدأ و{رَسُول الله} عطف بيان و{الذين مَعَهُ} عطف على المبتدأ و{أَشِدَّاء} خبر عن الجميع ومعناه غلاظ {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} متعاطفون وهو خبر ثانٍ وهما جمعاً شديد ورحيم ونحوه.
{أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] وبلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمناً إلا صافحه وعانقه.
{تراهم رُكَّعاً} راكعين {سُجَّدًا} ساجدين {يَبْتَغُونَ} حال كما أن ركعاً وسجداً كذلك {فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً سيماهم} علامتهم {فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود} أي من التأثير الذي يؤثره السجود. وعن عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل لقوله عليه السلام: «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» {ذلك} أي المذكور {مَثَلُهُمْ} صفتهم {فِي التوراة} وعليه وقف {وَمَثَلُهُمْ في الإنجيل} مبتدأ خبره {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ} فراخه. يقال: أشطأ الزرع إذا فرخ {فَأَزَرَهُ} قواه، {فَأزره} شامي {فاستغلظ} فصار من الرقة إلى الغلظ {فاستوى على سُوقِهِ} فاستقام على قصبه جمع ساق {يُعْجِبُ الزراع} يتعجبون من قوته. وقيل: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وعن عكرمة: أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضوان الله عليهم. وهذا مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة.
ويجوز أن يعلل به {وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} لأن الكفار إذا سمعوا بما أعد لهم في الآخرة مع ما يعزهم به في الدنيا غاظهم ذلك. و(من) في {مِنْهُمْ} للبيان كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان} [الحج: 30] يعني فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وقولك (أنفق من الدراهم) أي اجعل نفقتك هذا الجنس. وهذه الآية ترد قول الروافض إنهم كفروا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم إنما يكون أن لو ثبتوا على ما كانوا عليه في حياته.

.سورة الحجرات:

.تفسير الآيات (1- 8):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ} قدّمه وأقدمه منقولان بتثقيل الحشو، والهمزة من قدمه إذا تقدمه في قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} [هود: 98] وحذف المفعول ليتناول كل ما وقع في النفس مما يقدم من القول أو الفعل، وجاز أن لا يقصد مفعول والنهي متوجه إلى نفس التقدمة كقوله {هُوَ الذي يُحْيىِ وَيُمِيتُ} [غافر: 68] أو هو من قدّم بمعنى تقدم كوجه بمعنى توجه ومنه مقدمة الجيش وهي الجماعة المتقدمة منه ويؤيده قراءة يعقوب {لاَ تُقَدّمُواْ} بحذف إحدى تاءي تتقدموا {بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ} حقيقة قولهم جلست بين يدي فلان أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسعاً كما يسمى الشيء باسم غيره إذا جاوره. وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة وهي تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجري مجرى قولك (سرني زيد وحسن حاله) أي سرني حسن حال زيد. فكذلك هنا المعنى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفائدة هذا الأسلوب الدلالة على قوة الاختصاص. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته عليه السلام، لأن من فضله الله بهذه الأثرة واختصه هذا الاختصاص كان أدنى ما يجب له من التهيب والإجلال أن يخفض بين يديه الصوت. وعن الحسن أن إناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر. وعن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك. {واتقوا الله} فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها {إِنَّ الله سَمِيعٌ} لما تقولون {عَلِيمٌ} بما تعملون وحق مثله أن يتقي.
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ} إعادة النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد، وتحريك منهم لئلا يغفلوا عن تأملهم {لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى} أي إذا نطق ونطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه عالياً لكلامكم وجهره باهراً لجهركم حتى تكون مزيته عليكم لائحة وسابقته لديكم واضحة {وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أي إذا كلمتموه وهو صامت فإياكم والعدول عما نهيتم عنه من رفع الصوت بل عليكم أن لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، وأن تتعمدوا في مخاطبته القول اللين المقرب من الهمس الذي يضاد الجهر، أو لا تقولوا: له يا محمد يا أحمد وخاطبوه بالنبوة والسكينة والتعظيم، ولما نزلت هذه الآية ما كلم النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر إلا كأخي السرار.
وعن ابن عباس رضي الله عنهم أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذانه وقر وكان جهوري الصوت، وكان إذا كلم رفع صوته وربما كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيتأذى بصوته، وكاف التشبيه في محل النصب أي لا تجهروا له جهراً مثل جهر بعضكم لبعض، وفي هذا أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقاً حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالمخافتة، وإنما نهوا عن جهر مخصوص أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها. {أَن تَحْبَطَ أعمالكم} منصوب الموضع على أنه المفعول له متعلق بمعنى النهي، والمعنى انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم أي لخشية حبوطها على تقدير حذف المضاف {وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}. {إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله} تم اسم {إن} عند قوله {رَسُولِ الله} والمعنى يخفضون أصواتهم في مجلسه تعظيماً له {أولئك} مبتدأ خبره {الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} وتم صلة {الذين} عند قوله {للتقوى} و{أولئك} مع خبره خبر {إن}. والمعنى أخلصها للتقوى من قولهم (امتحن الذهب وفتنة) إذا أذابه فخلص ابريزه من خبثه ونقاه، وحقيقته عاملها معاملة المختبر فوجدها مخلصة وعن عمر رضي الله عنه: أذهب الشهوات عنها. والامتحان افتعال من محنه وهو اختبار بليغ أو بلاء جهيد {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} جملة أخرى قيل: نزلت في الشيخين رضي الله عنهما لما كان منهما من غض الصوت، وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل (إن) المؤكدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره دالة على غاية الاعتداد والارتضاء بفعل الخافضين أصواتهم، وفيها تعريض لعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم.
{إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} نزلت في وفد بني تميم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة وهو راقد وفيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، ونادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته وقالوا: اخرج إلينا يا محمد فإن مدحنا زين وذمنا شين، فاستيقظ وخرج. والوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص بظله من خلف أو قدام، و(من) لابتداء الغاية، وأن المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها وهي فعلة بمعنى مفعولة كالقبضة وجمعها الحجرات بضمتين، والحجرات بفتح الجيم وهي قراءة يزيد والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت لكل منهن حجرة.
ومناداتهم من ورائها لعلهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له أو نادوه من وراء الحجرة التي كان عليه السلام فيها ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والفعل وإن كان مسنداً إلى جميعهم فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم وكان الباقون راضين فكأنهم تولوه جميعاً {أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} يحتمل أن يكون فيهم من قصد استثناؤه، ويحتمل أن يكون المراد النفي العام إذا القلة تقع موقع النفي.
وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: التسجيل على الصائحين به بالسفه والجهل، ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه، ومنها التعريف باللام دون الإضافة، ولو تأمل متأمل من أول السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك. فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظيم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم وهجنته أتم من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ في التفاحش مبلغاً {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} أي ولو ثبت صبرهم، ومحل {أَنَّهُمْ صَبَرُواْ} الرفع على الفاعلية. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها قال الله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} [الكهف: 28]. وقولهم صبر عن كذا محذوف منه المفعول وهو النفس. وقيل: الصبر مرّ لا يتجرعه إلا حرّ. وقوله {حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} يفيد أنه لو خرج ولم يكن خروجه إليهم ولأجلهم للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أن خروجه إليهم {لَكَانَ} الصبر {خَيْراً لَّهُمْ} في دينهم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بليغ الغفران والرحمة واسعهما فلن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
{ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ} أجمعوا أنها نزلت في الوليد بن عقبة وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً إلى بني المصطلق وكانت بينه وبينهم إحنة في الجاهلية، فلما شارف ديارهم ركبوا مستقبلين إليه فحسبهم مقاتليه فرجع وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ارتدوا ومنعوا الزكاة.
فبعث خالد بن الوليد فوجدهم يصلون فسلموا إليه الصدقات فرجع. وفي تنكير الفاسق والنبأ شياع في الفساق والأنباء كأنه قال أي فاسق جاءكم بأي نبأ {فَتَبَيَّنُوآ} فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق، لأن من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه. وفي الآية دلالة قبول خبر الواحد العدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوينا بينه وبين الفاسق ولخلا التخصيص به عن الفائدة، والفسوق الخروج من الشيء. يقال: فسقت الرطبة عن قشرها، ومن مقلوبه: فقست البيضة إذا كسرتها وأخرجت ما فيها، ومن مقلوبه أيضاً: قفست الشيء إذا أخرجته من يد مالكه مغتصباً له عليه، ثم استعمل في الخروج عن القصد بركوب الكبائر. حمزة وعلي {فتثبتوا} والتثبت والتبين متقاربان وهما طلب الثبات والبيان والتعرف {أَن تصيبوا قَوْماً} لئلا تصيبوا {بِجَهَالَةٍ} حال يعني جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة {فَتُصْبِحُواْ} فتصيروا {على مَا فَعَلْتُمْ نادمين} الندم ضرب من الغم وهو أن تغتم على ما وقع منك تتمنى أنه لم يقع وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام.
{واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله} فلا تكذبوا فإن الله يخبره فينهتك ستر الكاذب، أو فارجعوا إليه واطلبوا رأيه. ثم قال مستأنفاً {لَوْ يُطِيعُكُمْ في كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ} لوقعتم في الجهد والهلاك، وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق وتصديق قول الوليد، وأن بعضهم كانوا يتصوّنون ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك وهم الذين استثناهم بقوله {ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان} وقيل: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى. ولما كانت صفة الذين حبب الله إليهم الإيمان غايرت صفة المتقدم ذكرهم وقعت (لكن) في حاقّ موقعها من الاستدراك وهو مخالفة ما بعدها لما قبلها نفياً وإثباتاً {وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر} وهو تغطية نعم الله وغمطها بالجحود {والفسوق} وهو الخروج عن محجة الإيمان بركوب الكبائر {والعصيان} وهو ترك الانقياد بما أمر به الشارع {أُوْلَئِكَ هُمُ الراشدون} أي أولئك المستثنون هم الراشدون يعني أصابوا طريق الحق ولم يميلوا عن الاستقامة، والرشد الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه من الرشادة وهي الصخرة {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام، والانتصاب على المفعول له أي حبب وكره للفضل والنعمة {والله عَلِيمٌ} بأحوال المؤمنين وما بينهم من التمايز والتفاضل {حَكِيمٌ} حين يفضل وينعم بالتوفيق على الأفاضل.